رفيق خوري
لا قوّة يمكن أن تعزل طائفة في لبنان، ولو كانت القوّة قاهرة والطائفة صغيرة. ولا طائفة تستطيع أن تتجنب العزلة إذا أرادت تمييز نفسها من الشركاء في الوطن، والتصرّف كقوّة إقليميّة في مواجهة الخارج. وهذا واحد من الدروس في "مزرعة الحيوانات" لجورج أورويل، حيث قاد الخروج على المساواة إلى الصراعات. لكن الرئيس نبيه بري الذي يعزل الأكثرية النيابية عن القرار في البرلمان، يصف "إعادة طرح قانون الانتخاب" بطلب من الأكثرية لتصحيح غلطة فيه بأنها "تهدف إلى عزل طائفة وهذا ما لن نسمح به". وأيّ طائفة؟ الطائفة الشيعية التي تمتلك السلاح وتمارس الهيمنة ويصرّ "ثنائي أمل - حزب اللّه" على الإمساك بكل نوّاب الطائفة الـ 27 مع سُريالية الدعوة إلى انتخابات خارج القيد الطائفيّ على أساس لبنان دائرة واحدة.
ولا جدوى من الجدل على الرغم من المفارقات. لا حول إصرار طائفة واحدة على الاحتفاظ بالسلاح في مواجهة بقية الطوائف التي تطالب بسحبه تنفيذًا لقرار "حصرية السلاح" في يد الدولة لبدء مسار الاستثمارات والمساعدات وإعادة الإعمار. ولا حول اتهام الأكثرية في مجلس الوزراء التي مارست الحق الوطنيّ في القرار، بالخضوع للإملاءات "الأميركية والإسرائيلية والسعودية" من موقع الطرف المرتبط بإيران ومشروعها والمؤمن بولاية الفقيه. لا حول حرص طهران على تسليح فصائل مذهبيّة وتمييز الشيعة من شركائهم في البلدان العربيّة والعمل لمشروع خاص بهم خلافًا لوصايا الإمام محمد مهدي شمس الدين، وبالتالي دفعهم إلى نوع من "العزلة الرائعة" على حدّ التعبير الشائع في رواية لأرنست همنغواي. ولا حول التسبّب من جديد في حرب مدمّرة بعد "حرب الإسناد" من أجل سلاح انتهى دوره وبات استخدامه ضدّ العدو أو ضدّ الشركاء في الداخل لعبة خطيرة وخاسرة.
حتى عندما يدعو رئيس الحكومة نواف سلام "حزب اللّه" إلى التخلّي عن الجناح العسكري والاكتفاء بالجناح السياسي مثل أي حزب، فإن الردّ مكتوب على الجدار: ليس في "الحزب" جناح عسكري وجناح سياسي، فهو مولود مع السلاح بقيادة دينية تتلقى درع التثبيت من الولي الفقيه علي خامنئي وتمارس دور "الوكيل الشرعي" له. وهو يعلن بصراحة أن سلاحه "سلاح المهدي" ولن ينتهي دوره ولو زالت إسرائيل قبل ظهور صاحب الزمان وتأليف "حكومته العالمية". ولبنان مجرّد تفصيل في هذا المشهد الذي يلتقي فيه الواقع والغيب. و "حزب اللّه" هو "ماكينة" أمنيته تعمل في الداخل والخارج.
ذلك أن الشرق الأوسط بما فيه لبنان يبدو كأنه يعيش في زمنين مختلفين وفي صراع بين مشروعين مختلفين. واحد يراوح بين القرن السابع والقرن العاشر، وآخر يركض وراء القرن الحادي والعشرين، وإن كان الجميع يستخدم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. مشروع "الولاية" وتصحيح التاريخ بقيادة الجمهورية الإسلامية في إيران. ومشروع "استعادة الخلافة" على أيدي الإخوان المسلمين و "داعش" و "القاعدة" وكل تنظيمات السلفية الجهادية، ولكن من دون نوعية الخلفاء الراشدين والذين لم يكونوا رجال دين. ومشروع الدولة الوطنية في كلّ بلد والذي لن يكتمل إلّا بالمواطنة في دولة مدنية. زمن العودة إلى البدايات أيام الفتح. وزمن التحوّلات المتسارعة وصنع المستقبل والتركيز على التنمية والازدهار والتعليم وتمكين المرأة.
والثمن الذي دفعه لبنان، ولا يزال يدفعه، باهظ. من المتغيّرات في "لعبة الأمم" القوية على أرضه إقليميًا ودوليًا إلى الارتباطات المحلية بها والعجز عن إدراك أهدافها الحقيقية وراء الأهداف المعلنة. وكثيرًا ما أخطأ المسؤولون الرسميون وغير الرسميين في قراءة الأحداث. وحتى عندما يتمكّن بعضهم من القراءة الصحيحة في التطوّرات وموازين القوى، فإنه يعجز عن اتخاذ قرار حاسم، وتكون الكلفة مثل القراءة الخاطئة وأكثر. وعلى الرغم من الإيحاء أننا خرجنا من مرحلة ترويض الأزمات إلى إدارتها على الطريق إلى حلها، فإننا عمليًا في مرحلة الدوران حول السلاح والإصلاح. وهما معًا في قبضة المافيا الميليشيوية والمالية والسياسية التي تمنع التوصّل إلى أيّ حلّ حقيقيّ ولو انهار لبنان.
يقول البروفسور جوزف ناي: "السياسة فن لا علم". لكن الفن والعلم هما آخر ما تدار به السياسة في لبنان بسبب خوف أصحاب الفن والعلم من أصحاب النفوذ.
صحيفة نداء الوطن