رفيق عبد السلام
من نافلة القول الحديث عن ضعف العالم العربي وافتقاده الحدّ الأدنى من مقوّمات الحصانة الذاتية والقدرة على الدفاع عن نفسه وحماية مصالحه، في ظلّ العواصف الهوجاء المحيطة به من كلّ جانب. كما بات واضحاً ارتفاع منسوب المخاطر في حقبة دونالد ترامب الجديدة، المتقاطعة مع سياسات بنيامين نتنياهو في مشروعه الشرق أوسطي، الذي تختلط فيه الحقائق بالأوهام، وهو مشروع كبير يتجاوز نطاق الساحة الفلسطينية الضيّقة ليطاول المجال العربي الأوسع وما بعده، ويتراوح بين التهجير وقضم الأرض والاستيلاء على الأموال والثروات العربية، ترغيباً وترهيباً. وفي مواجهة ذلك كلّه، يقف النظام الرسمي العربي (بملكياته وجمهورياته)، بين عاجز وصامت ومتواطئ، إذ يبحث كلّ حاكم عربي عن خلاصه الفردي، وعلى طريقته الخاصّة، سواء بالخصم ممّا تبقّى من مقوّمات السيادة أم بالدفع من خزائن النفط وصناديق السيادة. وللتذكير، فإن ترامب يتهيّأ لزيارة دول الخليج، وكلّ همه أن ينتزع صفقات سلاح لن يتم استخدامه إلا في الصراعات الداخلية أو في الحروب البينية العربية، ومعها شفط الأموال تحت عناوين استثمارات في المشاريع والسندات الأميركية.
لقد كشف العدوان على غزّة ما بقي من عورات النظام العربي المكشوفة من أصلها، وبيّن على سبيل اليقين أن مقولات السيادة والأمن القومي واستقلالية القرار الوطني التي تتغنّى بها الأنظمة العربية مجرّد بضاعة سياسية مغشوشة، يتم ترويجها في السوق المحلّية والعربية، للهروب من تحمّل أعباء القضية الفلسطينية، التي ترتبط بالأمن الداخلي للدول العربية نفسها، فقد شاءت أقدار الجغرافيا والتاريخ أن يكون الفلسطيني في المقدّمة، ولكنّ الخطر الصهيوني بات يحوم فوق رؤوس الجميع، ويذكّرهم بأن حريق غزّة يمكن أن ينتقل إليهم في أيّ وقت من الأوقات، ولن تشفع لهم الوقاية من مخطّط نتنياهو (وفريقه الصهيوني المتطرّف) فتح أبواب التطبيع والعلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية، هنا يبدو الإمبراطور العربي مكشوفاً أمام نتنياهو، وحتى غطاء الدولة الفلسطينية، الذي كان يتستّر به النظام الرسمي العربي لتغطية العجز والتخاذل، سُحب تماماً بعدما تخلّى الأميركان عن المجاملات وبيع الأوهام، وجاهروا بمبدأ يهودية الدولة وأحقّيتها الكاملة في التمدّد في المحيط العربي باتجاه تشكيل الشرق الأوسط الإسرائيلي.
كان ترامب بمثابة هدية لنتنياهو المنهك بالصراعات الداخلية والحروب الخارجية، ما منحه وقوداً جديداً للمضيّ في حرب التطهير في غزّة والضفة الغربية، وترجمة مخطّطه الكبير في تشكيل "الشرق الأوسط الجديد"، الذي حلم به ونظر له الآباء المؤسّسون للحركة الصهيونية، وهو خيار يجد هوىً دينياً وسياسياً لدى ترامب وحلفائه الإنجيليين، الذين ينظرون للمنطقة من عدسة المرويات التوراتيّة والموعودات الإنجيلية، بدءاً بتهجير الفلسطينيين من غزّة والضفة، ومن ثمّ إعادة تشكيل الخرائط ورسم الحدود بقوة الحديد والنار، بغاية أن تصبح تل أبيب عاصمته السياسية والمالية والأمنية الكبرى، التي تمسك بالعصب الحيوي للمنطقة كلّها، فالانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط باتجاه المحيطين الهادئ والهندي لمواجهة صعود الصين، لا يعني شيئاً سوى هندسة ترتيبات أمنية وسياسية للمنطقة، تجعل منها فضاءً إسرائيلياً كاملاً، بما يجعل الدول العربية عبارةً عن مجال نفوذ سياسي وأمني ومالي إسرائيلي لا غير.
هنا تتكثّف الغيوم في الساحة العربية في مختلف مواقعها؛ الفلسطينيون مهدّدون في وجودهم وكيانهم الجمعي بحروب الإبادة المفتوحة، ومصر معرّضة لانتزاع جزء من أراضيها في سيناء بزعم التوطين المؤقّت للفلسطينيين هناك، لا سيّما أن الدبّابات الإسرائيلية باتت تتحرّك عند حدودها مباشرةً في رفح، وتتموضع في المرتفعات، الأردن يعيش وضعاً قلقاً يهدّد كيانه مع تزايد الضغط السياسي والأمني في حدوده، ولبنان ما زال موضع استباحة لأراضيه وأجوائه ومياهه، وسورية يتمدّد فيها جيش الاحتلال، ويقضم مزيداً من الأرض والمساحات في الجنوب، وما بقي من الدول العربية في المشرق والمغرب يراد سوقها طوعاً وكرهاً إلى خيمة الاتفاقات الإبراهيمية، وفي مقدمها السعودية. أمّا إيران، فما زال الغموض يلفّ مصير مفاوضاتها مع الأميركيين في مسقط (وغيرها)، إذ تصدر تصريحات متضاربة عن واشنطن تتقلّب بين السلم والحرب، وبموازاة ذلك، تحشد الأساطيل والبوارج والطائرات.
إذاً، هناك حقيقتان صارختان في المشهد العربي زادتهما أحداث غزّة وضوحاً: هشاشة الدولة العربية ونهاية النظام الرسمي العربي المهتزّ من أصله. فقد ظهرت الدولة العربية الموصوفة بالوطنية بالغة الضعف والعجز على كثرة التغنّي بالسيادة الوطنية والتاريخ والأمجاد والأبطال، وهي التي لم تتمكّن من إدخال قارورة ماء أو رغيف خبز لسكّان غزّة المحاصرين والممتحنين. تتكدّس الشاحنات عند الحدود، ويصرخ الغزّيون من وراء الجدران مثلما يضج الشارع العربي توجّعاً وحسرةً على حال الفلسطينيين المنكوبين، ولكن لا شيء يتغيّر في الأرض، لأن مفتاح الحلّ والربط، والسلم والحرب، يمسك به نتنياهو، ومن خلفه فريقه اليميني والرئيس ترامب. وبذلك، تحوّل الحكام العرب إلى ما يشبه منظّمات حقوقية وإغاثية دولية تطالب برفع الحصار ووقف العدوان من دون جدوى.
الواضح أن الدولة العربية في وضعها الراهن هشّة وضعيفة، ونحن نكشف هنا ما هو واضح وصارخ في التكوين الجيني للدولة العربية، والمفارقة العجيبة أنها قابلة للتفسير تاريخياً وسوسيولوجياً، فالدولة العربية بقدر ما تبدو عنيفةً وشرسةً في الداخل، تبدو طيّعة ومنصاعة للخارج، وهذا الأمر لا يمكن إرجاعه إلى ضعف أو تخاذل أو حتى خيانة نُخب الحكم، وإن كان قليل أو كثير من ذلك حاصلاً، بقدر ما يُفسَّر بالوضع البنيوي للدولة العربية الضعيفة والواهية، التي لا تقوى على حماية وجودها والحدود الدنيا من أمنها، فتكتفي بالترقيع الخطابي في شعارات السيادة والمجد الوطني، مع تضخيم دورها في الضبط والتأديب الداخليَّين الموكلَين إليها، بموازاة الخضوع للخارج، سواء لتأمين وجودها أو لتوفير حاجاتها المالية، وبغضّ النظر عمّن يحكم في مثل هذه الأوضاع العربية، سيجد نفسه أمام هذه المعادلة القاسية: عنف وتسلّط في الداخل، وطاعة وانصياع للخارج، قد تخفّف جرعة من الديمقراطية هذه الثنائية، ولكنّها لن تلغيها في كلّ الأحوال، لأن الديمقراطية، حتى في حال كتب لها الاستمرار والاستقرار، لن تقلب المعطيات الصلبة، ولن تحوّل الضعيف قويّاً ومقتدراً في نظام العلاقات الدولية.
المشكلة هنا أن التحدّيات كبيرة وخطيرة، وتطاول وجود العرب ومستقبل أجيالهم، ولكن يُقابَل ذلك بتفكير صغير وخيال سياسي شبه معدوم من طرف قادة الدول العربية المنشغلين بحروبهم الداخلية ضدّ معارضيهم ومهارشاتهم البينية، تحت سقف الأدوار الوظيفية الموكلة دولياً.
العربي الجديد